حين تعجز عن الكلام !!
بقلم : الدكتور محمد سيد احمد الجورنالجيمررت خلال الأيام الماضية بظروف صحية قاسية، ورغم شدة الألم إلا أنني لم أستطع التوقف عن المشاركة بالكلمة سواء المكتوبة أو المنطوقة، وتحاملت كثيراً على نفسي حتى لا يشعر أحد بمعاناتي، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية، وتم حجزي بالمشفى ورغم ذلك، ظللت أتابع الأحداث السياسية المختلفة، وأشارك في تحليلها عبر مقالاتي المكتوبة ومداخلاتي الهاتفية، وحرصت على المشاركة وعدم الاعتذار عن أي لقاء حتى لا يشعر أحد بما أمر به من ظرف صحي، وجاء يوم الأحد قبل الماضي وكان موعد إجراء العملية الجراحية وقبل دخول غرفة العمليات بدقائق رن هاتفي وكان محدثي فريق الإعداد بقناة الميادين يطلبون مشاركتي بعد قليل في تغطية مباشرة عبر سكايب لتحليل آخر المستجدات على الساحة العربية الفلسطينية، وهنا ولأول مرة أعتذر عن المشاركة وكان لابد أن أوضح سبب اعتذاري، وبالطبع تفهم الزملاء السبب وقاموا بالدعاء بالصحة والسلامة، ورغم شعوري بالألم وانشغالي بالجراحة، إلا أنني ظللت أفكر في هذا الاعتذار حيث شعرت بالعجز عن المشاركة بالكلمة لأول مرة، حيث أعتبر مشاركاتي على المنابر الإعلامية المقاومة جزء من المشاركة في الحرب التي يخوضها محور المقاومة، حيث أعتبر نفسي جندي مشارك بالكلمة، وهنا عاودت التأمل والتفكير في قيمة الكلمة وأهميتها في حياة الإنسان.
ونتج عن ذلك أن ظللت لعدة أيام بعد إجراء العملية الجراحية وفي ظل العجز عن الكلام، أتأمل في مصطلح الكلمة وأهميتها في حياة الإنسان، وتأثيرها في مصيره، بل انتقلت من الخاص إلى العام لأتأمل في أهمية الكلمة في حياة الشعوب والمجتمعات، وتحديد مصير الدول ووضعها ومكانتها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتوصلت إلى أنه على المستوى الفردي بالكلمة يحيا الإنسان وبها يسعد، وبها يشقى أيضاً، فالكلمة الطيبة ترفع من معنويات الإنسان وتساعده على العمل والاجتهاد والنجاح والتفوق وبالتالي على الإحساس بالرضا والشعور بالبهجة والسعادة، والكلمة الخبيثة تخفض من معنويات الإنسان وتجعله غير قادر على العمل والاجتهاد والنجاح والتفوق، وبالتالي على الإحساس بالفشل، والشعور بالإحباط واليأس، وهنا يمكن رصد المواقف الحياتية التي يمر بها الإنسان والتي تترجم عبر الكلمات فإما تصنع نجاحه وسعادته، أو تصنع فشله وتعاسته، بل لا نبالغ إذا قولنا أن الكلمة قد تكون قاتلة، فكم من الأشخاص الذين نعرفهم مرت عليهم مواقف سمعوا فيها كلمات قاسية لم يستطيعوا تحملها فتوقفت قلوبهم وانتهت حياتهم.
أما أهمية وتأثير الكلمة في تحديد مصائر الشعوب والمجتمعات والدول، فبالكلمة تعلن الحروب، وتشتت وتقتل الشعوب، وتفكك وتهدم المجتمعات، وتنهار وتزول الدول، ولنتأمل مع يحدث لشعبنا العربي الفلسطيني في قطاع غزة عبر ما يزيد عن عشرة شهور الآن، فبكلمة بدأ العدوان، وبكلمة تحركت الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة صوب قطاع غزة فقامت بقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدمً بارد، وبكلمة قامت المدفعية بقصف عنيف لم يبقي حجراً فوق حجر، وبكلمة تم إشعال النيران وحرق الأشجار، وإذا كانت الكلمة هنا هي فعل تدمير فيمكنها أيضاً أن تكون فعل بناء وتعمير، فإذا كانت هناك إرادة وضمير جمعي عالمي لأجبر وبكلمة هذه الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة على التوقف الفوري عن العدوان، وبكلمة أيضاً أجبرها على فك الحصار ودخول المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني الذي يموت عطشاً وجوعاً تحت الحصار، أتدركون الآن أهمية وتأثير الكلمة في حياة ومصير الإنسان والشعوب والمجتمعات والدول.
ولم أجد ما يمكن أن أختم به تأملاتي عن معنى الكلمة وأهميتها وتأثيرها، في حياتنا اليومية، بأروع ما كتب عن الكلمة في حوار بين الوليد بن عتبه رسول يزيد بن معاوية للإمام الحسين بن علي من أجل أخذ البيعة، وذلك في مسرحية الحسين ثائراً التي كتبها الروائي الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، حيث أعتبر الوليد البيعة مجرد كلمة فجاء رد الحسين: " أتعرف ما معنى الكلمة ؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، زاد مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة، أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين، فساروا يهدون العالم، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة "، فبالكلمة يمكن أن تنكشف الغمة في غزة، إذا توحدت كلمة العرب والمسلمين الصامتين والمتخاذلين، فلن نطلب منهم المشاركة بالسلاح فهذا كفيلاً به محور المقاومة وحده، فقط نريدهم المشاركة والدعم بالكلمة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.