الكاتب والمفكر اللبناني علي الأمين لـ”الجورناجي”: مصر رافعة العالم العربي.. ودورها في لبنان طبيعي ومقبول ونراه ”المنقذ”
حاوره : عـلاءطـه تصوير : أحمد السعداوي الجورنالجي*مصر بالوجدان العربي حاضرة وقادرة ومؤثرة.. والقاهرة ذات نفوذ.. والدور المصري لا يمكن الاستغناء عنه في لبنان والسودان وليبيا وفلسطين والعراق وسوريا وبالمغرب والخليج العربي
*في بيروت مثل باقي العواصم الناس تنام علي أم كلثوم وتستيقظ علي فيروز ما يعكس التلاحم العربي.. ولابد أن يتحول هذا إلي مصالح مشتركة
*الإسلام السياسي في مأزق.. وتجربته صادمة أثبتت فشلها في كل مكان.. وتياره من الإخوان لداعش تحول إلي عنصر تفتيت وعزز المذهبية والفئوية والعنف والإلغاء.. خربوا المجتمعات
*نحتاج إلي مواجهة فكرية وثقافية "حاسمة" مع أفكار التشدد والإرهاب.. يتبعه مشروع عربي يملأ الفراغ ويمتلك شروط النهضة
*الأزمة المالية في لبنان ذاهبة إلي مزيد من التدهور إذا لم نشهد خطوات "جدية وإصلاحية" في إدارة الشأن العام والأمور السياسية
*الشعب اللبناني يمثل الركيزة الأساسية لبقاء الوطن والحفاظ علي ما تبقي من الدولة
*النخبة اللبنانية نخبة تصارع علي كل المستويات وتدفع أثمان باهظة من أجل استعادة الدولة كمطلب حياتي
الكاتب والمفكر اللبناني علي الأمين من أبرز الأصوات المعبرة عن أصالة لبنان وهويته. حزمة من الأفكار المستنيرة تواجه بصدر مفتوح أفكار الإرهاب والتشدد وأموال وسلاح الميليشيات الممولة من الخارج. علي خلاف الكثير من الكتاب اللبنانيين لم يفكر في الهروب من جحيم الحروب المتلاحقة والأزمات الطاحنة إلي عاصمة هادئة وراء البحار ليعش في رغد بعيدًا عن النيران والألسنة والملاحقات والمؤامرات بل فضل البقاء وسط أشجار الأرز والتفكير بهدوء رغم ضجيج وصخب طبول الإنقسام والطوائف. وفي الحوار التالي تبدو كلماته طاقة من الأمل لخروج لبنان من كبوته، ويلقي الضوء علي أهمية الدور المصري في لبنان، ومستقبل الإسلام السياسي الظلامي من الإخوان إلي داعش، ويحلم بنظام عربي يقوم علي المصالح من أجل رفاهية شعوبه.
**أين يوجد باب خروج لبنان من الأزمات المتلاحقة التي تضربه؟
*كلما أنكفأ العرب عن لبنان كلما زاد مأزقها. العرب في مرحلة معينة سلموا موضوع لبنان إلي سورية. والرهان الآن علي أن تكون هناك رافعة عربية لابد أن تلعب دورًا أساسيًا ومحوريًا في المعادلة اللبنانية. فلبنان ينتمي إلي محيط عربي وهذا ليس كلامًا عاطفيًا ضمن مقولات القومية والهوية العربية. لكنه بالمعني الفعلي اقتصاديًا وماليًا ولغةً وعلاقات اجتماعية ينتمي إلي نظام المصالح العربي. اليوم العرب خارج المعادلة بالمنطقة. وإذا نحكي بوضوح هناك صراع إيراني أميركي بالمنطقة. وتضرر لبنان يؤثر علي العالم العربي ومصالحه.
**كيف تنظر إلي شكل العلاقات المصرية اللبنانية في إطار الدور المصري بالسنوات الأخيرة الذي يبدو مهتمًا وواعيًا ومدركًا وفاعلًا في الشأن اللبناني؟
*في الآونة الأخيرة هناك نشاط في السياسة الخارجية المصرية نحو لبنان علي رأسها المشاركة في اللجنة الخماسية بشأن لبنان التي تشكلت من مصر وأميركا وفرنسا والسعودية وقطر. وفي السنوات الأربعة الأخيرة لاحظنا نشاط في الحركة الدبلوماسية المصرية في لبنان علي مستوي رفيع من خلال تواصل السفارة المصرية في لبنان مع مختلف القوي والمؤسسات، والسفير المصري في لبنان الدكتور ياسر علوي له نشاط مميز. الدبلوماسية المصرية لعبت دورًا مهما في مد لبنان بالكهرباء والغاز، في وقت كانت لبنان بلا كهرباء طبيعية، وذلك باتفاق واستعداد جدي. وهناك تطلع لبناني –وهو خالي من المجاملات لأنه واقع- القائم علي أن مصر موجودة في الوجدان اللبناني، وهناك شعور لبناني بأن مصر كلما لعبت دورًا أكبر كان لهذا فائدة علي لبنان، خاصة أن مصر لا تلعب دورًا "فئويًا" في لبنان. فعندما تنظر للدول الأخري المؤثرة التي ترتبط بالشأن اللبناني تري انها تستثمر في فئة معينة او محددة. مصر إذا نظرت لها لديها في لبنان مستشفي ميداني وتقدم وتوزع مساعدات عينية، ولا تشعر ان هذا الدعم والمساعدة المصرية لفئة بعينها بل الواضح أنها للبنان بمعزل عن مصالح خاصة. هذه النمط السياسي الذي تقدمه مصر مريح للبنان، ولبنان تحتاج إليه. فلبنان مثلًا كما نفهمه شعبيًا علي المستوي المالي بحاجة إلي أن تدفع له مئة دولار إلي لبنان والدولة اللبنانية ولا تدفع مليون دولار لفئة معينة او لطائفة.. مئة دولار أهم للبنان من المليون دولار لفئة معينة. فالمئة دولار هي دعم للجميع للشعب والدولة اللبنانية. لذلك لدينا تطلع لدور مصر ونفوذها الإقليمي ولقوتها. مصر في الذاكرة اللبنانية بكل أبعادها الفنية والسياسية والاجتماعية حاضرة، بالتالي فيه تطلع لأن يكون لمصر دور كبير في لبنان. ولنا نحن كمراقبين مقتنعين أنه كلما قويت مصر في الخارج وصار لديها نفوذ ودور في دعم الدول كلما أصبحت أقوي في مستويات أخري حتي في الداخل وفي دورها الإقليمي وفي دورها الدولي. والدور المصري ليس دورًا منفرًا لا يستثمر من أجل مآرب أخري. وهو يدعم ويساند من أجل قيم الأشقاء والجيرة والحفاظ علي المصالح العربية والأمن القومي العربي. لا أريد أن أسمي الدول الأخري لكن إذا قارنت الدور المصري مع الدول الأخري في لبنان، الدور المصري مقبول أكثر من كل الفئات من الناحية الاستراتيجية. وهناك طلب أن يكون فيه دور لمصر بلبنان في إطار الأمن القومي العربي. فالمدي الإقليمي العربي مصر في حاجة له كما لبنان في حاجة إلي المدي الإقليمي العربي. وأي دولة بتنهار في المنطقة العربية تؤثر علي باقي الدول. إذا نظرت إلي إيران وتركيا كلاهما دمر المنطقة العربية واستفادا من ذلك. لكن بالنسبة لمصر تدمير المنطقة يعني استهداف مصر. ودور مصر في لبنان أو المنطقة العربية هو الدور الطبيعي وهو المطلوب. ومصر قادرة علي القيام بذلك بوزنها التاريخي ووزنها الجغرافي ووزنها السياسي وبنخبتها. إذا كنا نتكلم عن عالم عربي فرافعة هذا العالم وهذا النظام مصر، ومصر أهميتها كبيرة ودورها لا يمكن الاستغناء عنه في لبنان وفي السودان وفي ليبيا وفي فلسطين والعراق وسوريا وبالمغرب العربي وبالخليج العربي. ومصر عندها إرث في ذلك. نحن نتحدث عن دور له تاريخ وسوابق ومرجعيات، ويمتلك قوة دبلوماسية وحضور علي كل المستويات. مصر بالوجدان العربي حاضرة وقادرة ومؤثرة. قبل كل شئ هي مؤثرة فكيف إذا تحركت. ولدي النخبة اللبنانية الان قلق سببه أن لبنان هذا الذي مساحته 10 آلاف كيلو متر مربع كان مساحة من الحرية النسبية قياسًا بالمحيط الجغرافي لها، وكان مساحة إعلامية، ومساحة ثقافية وسياحية.
**هناك ارتباط وجداني وثيق بين لبنان ومصر مما جعلنا نقول ان المصريين يشربون قهوة الصباح علي أغاني فيروز، ويشربون شاي المساء علي أغاني أم كلثوم؟!
*في لبنان مثل كل العالم العربي الناس تنام علي أم كلثوم ويستيقظون علي فيروز، وهذا يعكس التلاحم بين العالم العربي. وبالتالي كان لابد أن يتحول هذا إلي مصالح مشتركة كما نتحدث هذه الأيام. نحن نقول الوحدة العربية ووحدة اللغة والتاريخ، وانا أريد ان أتجاوز هذا الكلام لأقول أن النكبة العربية حدثت بسبب هذا التفكك بين العرب. وهو تفكك له علاقة بالاقتصاد والعيش وعلي كل الأمور التي انعكست علي كل هذه الدول، ولبنان دفع ثمن. هناك تطلع لدور عربي لحل أزمة لبنان، وفيه تطلع لدور مصري يساهم فعليًا في إنقاذ لبنان. وإنقاذ لبنان ليس مجرد عمل خيري بل هو عمل من أجل حماية مصر ومصالحها، وحماية المنطقة ومصالحها، ولمنع التدخلات من الأعداء الاسرائيليين والتراك والإيرانيين. أزمة لبنان ليست داخلية ولا لوجود الانقسامات، وإنما الأزمة الحقيقية هي دخول دول تستثمر نفوذها في لبنان مستفيدة من بعض التباينات والخلافات. وحجم هذه التدخل هائل في دولة بها 5 ملايين علي مساحة 10 آلاف كيلو متر، ولا يمكن مواجهة هذا التدخل بالمال والسلاح إذا لم يكن هناك دائرة عربية قادرة علي أن تشكل رادعًا ومانعًا لهذه التدخلات. المسئولية لاشك يجب أن يتحملها اللبنانيين لكن لا يعفي الأطراف العربية لأنها معنية من منطق المصلحة. ودعنا نتساءل عندما دخل الإيرانيون إلي لبنان ألم تتأثر المنطقة العربية بالكامل. وعندما دخلت إسرائل لبنان في 1982 أثروا كذلك علي المنطقة العربية كلها.
**صعود الإسلام السياسي مع الإخوان في مصر وتونس ومع داعش والنصرة في الشام والعراق.. مآلاتهم شكلت ذروة الإسلام السياسي والتي أدت إلي فشل وتدخلات خارجية وفتن داخلية.. كيف تنظر لمستقبل الإسلام السياسية بالمنطقة العربية.. هل نحن أمام نهاية الإسلام السياسي أم أننا قد نشهد طبعة جديدة منه؟
* الإسلام السياسي في مأزق. تجربة الإسلام السياسي أثبتت فشلها في كل مكان وحتي في إيران. فالإسلام السياسي بدلًا من أن يكون عنصر جامع تحول إلي عنصر تفتيت، وعزز المذهبية والفئوية والعنف والإلغاء، وترك التسامح وفتت وخربت المجتمعات، وانشأت ثقافة بالمجتمعات غريبة تقوم علي التكفير والتشدد. لكن هذا لا يمنع إعادة ظهور هذه المظاهر مرة أخري لأن الواقع لا يقبل الفراغ بوالتالي لابد من ملأ هذا الفراغ. وعلينا ان نسأل لماذا تأثرت مجتمعاتنا بهذه المظاهر؟ والإجابة لأن مجتمعاتنا تبحث عن شئ ووجدت هذه المظاهر واعتبرتها هي الحل وصدمت فيها فيما بعد. وبالتالي نحن بحاجة إلي المشروع العربي، وانا لا اتحدث عن استعادة المشروع الأيدولوجي القومي. أنا اتحدث عن مصالح النظام العربي ورؤاه وتطلعاته من أجل حياة عربية أفضل ضمن نظام يتبني مشروع فكر واستنارة وجامعات وبحث علمي وكلها هي شروط النهضة العربية. لا يجب ان نترك الفراغ مرة أخري للإسلام السياسي. كيف دخل الإيرانيون غلي لبنان. وجدوا امكن فراغ فملأوها. الخلاصة مشاريع الإسلام السياسي فشلت في العالم العربي ولا تحمل آفاق تطور وإنما تحمل تخلف وتراجع. لكن لا يكفي أنها تفشل فمن الممكن أن تعود ثانية، فيجب أن تكون هناك بدائل تقدم مواجهة فكرية وثقافية قبل السلاح. عندما نقول أميركا وقوتها، فهل القوة الأمريكية ناشئة فقط بسبب القنبلة الذرية والأسلحة المتطورة لكن عندها هوليود وثقافة وجامعات وصناعات وابداع وقوة الفكرة. بالتالي نحن في حاجة إلي أن نخلق فكرة وحلم يشكل وجدان كل عربي ويسعي لتحقيقه، وهو ما يجعلنا نقضي علي كل مظاهر التخلف والتطرف ونستأصل الأفراد والمجموعات التي تتبني هذه المظاهر وهم نتاج استثمار خارجي لدول. فعندك داعش لا يوجد عدو للعالم العربي إلا واستثمر في داعش.
*كيف تنظر إلي الأزمة المالية التي تتعرض لها لبنان، وإلي أي مدي ستصل؟
*الأزمة المالية في لبنان مرتبطة بالأزمة السياسية، بمعني أنه لا نتوقع أن هذه المنظومة السياسية التي حكمت لبنان ولا تزال تحكمه ستحل الأزمة لأنها هي من أوصل الأزمة إلي ما هي عليه اليوم. فلا يمكن أن تحمل المسئولية المالية اليوم لحاكم مصرف لبنان لأن هذه الأموال التي افتقدها المصرف هي ديون للحكومة اللبنانية، أعطاها للحكومة لكن مسئوليته أنه أعطاها بلا شروط. وما وصلنا إليه هناك مسئولية جماعية تتحملها المنظومة السياسية الحاكم ويتحملها حاكم المصرف. وبالتالي من أوصل لبنان لهذه الأزمة لا يمكن أن ينتشلها منها، والدليل علي ذلك انه في الثلاث سنوات الأخيرة منذ الإنهيار الذي حدث لم نلحظ أي محاولة للخروج من المأزق من قبل هذه السلطة القائمة اليوم. إذا كانت هذه السلطة تعاني من الفساد الإداري فلم نشهد أي خطوة إصلاحية. إذا كان المطلوب عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي لم يتم إنجاز هذا الإتفاق إلي الآن. إذا كان المطلوب إجراء تغيير في السياسات فلم يجري أي تعديل. إذا لم نشهد خطوات سياسية "جدية" في إتجاه إحداث تغيير في إدارة الشأن العام، وإدارة الأمور السياسية، فلن نتوقع أن يحدث أي تحسن في الأزمة المالية. وبالتالي الأزمة ذاهبة إلي مزيد من التدهور.
*بوصفي متابع للشأن اللبناني أجد مفارقة كبيرة في المشهد ففي الوقت الذي يفتقد فيه السياسيين الإرادة السياسية للخروج من الأزمة، نجد لدي الشعب اللبناني إرادة في الحياة "غير عادية" عبر الحفلات الكبيرة المتواصلة والرواج السياحي والمطاعم الجديدة فيما يعد إعلان شعبي بأنه يريد الخروج من ظلام الأزمات.. كيف تنظر إلي ذلك؟
* البعض ينظر لهذه المظاهر الإحتفالية أو التي تعبر عن حيوية سياحية بنظرة سلبية ويقول شوف فيه فقراء ، لكن هناك وجه آخر لاحظناه في الفترة الأخيرة أن الشعب يخرج بنفسه من الأزمة فمثلًا موضوع الكهرباء هل لك أن تتخيل لا توجد كهرباء سوي لساعات بسيطة، وقعدنا سنتين بلا كهرباء في الدولة، لكن اللبناني عمل "كهربته" استخدمت المولدات والطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. اللبناني أيضًا في مقاومته لمشهد الإنهيار علي المستوي الرسمي وسوء الإدارة وسوء السلطة السياسية، قام بالمزيد من الإعلان عن رغبته في الحياة بإعادة البناء وأن يكون معبر عن فرح وهذا تشاهده بالمهرجانات والإحتفالات المنتشرة اليوم في كثير من المناطق. وهذا بالجوهر هو تعبير عن إرادة قوية خاصة أن جزء كبير منهم من المهاجرين اللبنانيين الذي يحرصون علي المجئ إلي لبنان في فصل الصيف ويعبرون من خلال هذه الخطوات علي تمسكهم بلبنان. والتقديرات تقول ان هؤلاء المغتربين يحولون إلي لبنان من 6 إلي 7 مليارات سنويًا. الخلاصة ان الشعب اللبناني بمعزل عن السلطة ومؤسسات الدولة هو الذي يمثل الركيزة الأساسية لبقاء هذا الوطن، والحفاظ علي ما تبقي من الدولة.
*الأزمات الإقتصادية والمالية تواجهها غالبية الشعوب بتغيير نمط حياتها سواء الاستهلاكي أو المعيشي إنما اللبنانيون لم يغيروا نمط حياتهم رغم توحش الأزمات المحيطة بهم؟!
*هذا كلام لا يوجد به شك. لكن هناك جزء آخر تعرض لأزمة كبيرة. يعني مثلًا في القطاع العام بلبنان لدينا 400 ألف موظف يمثل 26 في المئة من القوة العاملة، وهؤلاء يمثلون طبقة أشبه بالطبقة الوسطي، وكان الحد الأدني للموظف منهم في العام 2019 وما قبله، لا يقل عن 800دولار شهريًا، لكنه الآن حتي المدير العام لا يتقاضي هذا الراتب صار 400 دولار، هذه الفئة تعرضت لضربة قوية، هي كانت الطبقة "المدللة" إذا صح التعبير فالقطاع العام كان مرغوب في عموم لبنان لأن به امتيازات وفرص للحياة الجيدة، لكن في مقابلهم فئة المهاجرين الذين يمثلون المنقذ وصمام الأمان وهم الذين يلجأ لهم الأقارب لمساعدتهم. وهناك فئة أصحاب المهن الحرة والتي تحسنت أحوالهم للأفضل. في كل الأحوال هناك أزمة حقيقية موجودة، وفيه مقاومة لها تأخذ بعد التضامن الإجتماعي والذي له مستويات عديدة، فعندك مثلًا القطاع الصحي صار قطاع خاص بالمطلق، فالدولة لم تعد تساهم في هذا القطاع، فأصبح الدواء والصحة عبء كبير علي اللبناني، بالتعليم أيضًا تأثرت الجامعة والمدرسة الرسمية، والمعلمون الذي كان يتقاضي ألف وخمسمائة دولار صار يتقاضي مئة أو مئتين دولار بسبب هبوط العملة ولاشك هذا له انعكاس كبير علي التعليم.
**أمام سوء إدارة السياسيين وقوة الشعب هناك ضلع ثالث في الواقع اللبناني وهو النخبة التي تعد مجموعة من الشجعان التي تحارب علي كل الجبهات ومستعدة لدفع أثمان كبيرة سواء بالتصفية الجسدية أو بملاحقة الميلشيات.. ما هو قلق وهواجس هذه النخبة الآن وأنت أحد أفرادها؟!
*لاشك أن ما يجري هو عملية تدمير ممنهج للدولة اللبنانية وذا حدث خلال السنوات الماضية. تحدثنا إيجابيًا عن مقاومة الشعب اللبناني. تحدثنا عن عوامل لكن هناك تدمير ممنهج للدولة. الدولة أمن صحي وأمن إجتماعي، ومؤسسات. وهذه المؤسسات ضربت وتصدعت وتكاد تكون منهارة بالكامل أو شبه منهارة وتراجعت، وهذا الأمر يهدد الكيان، إذا لم تكن هناك دولة وكيان بالمعني المؤسساتي، والذي ينعكس علي الهوية الوطنية والهوية الجماعية، وبالتالي يضعف الهويات التي تأخذ طابع انفصالي وتقسيمي، ولذلك برزت في الآونة الأخيرة أحاديث كثيرة عن الفيدرالية، وصار البعض يبحث عن الحل بطريقة دعونا كل مجموعة تحل قضاياها بمعزل عن الآخر. في تقديري فيه نخبة بلبنان لاشك تحاول في كل المناطق وفي كل المواقع التعبير عن الهوية اللبنانية والانتماء الوطني ولا تجد وجودها إلا في قيام الدولة الحقيقية. وأصلًا النخبة مصالحها مرتبطة –بدرجة كبيرة-بالدولة. وكلما ضعفت الدولة ضعفت النخبة الوطنية، وكلما قويت الدولة قويت النخبة الوطنية. لماذا نقول النخبة الوطنية تضعف كلما ضعفت الدولة لأنه تقوي القوي المرتبطة بالخارج بشكل كامل والتي تعتمد في مصادرها وتمويلها وبقائها علي الخارج، ولا تعتمد علي الإقتصاد الوطني، وبالتالي إذا إنهار الإقتصاد لا تتأثر ومواردها مستمر وليس لديها أزمة. هناك نخبة تصارع علي المستوي الفكري والسياسي والإعلامي من أجل استعادة الدولة كمطلب حياتي وليس نخبويًا، كمطلب حياة وعيش واستمرارية وليس كمثل وقيم ومبادئ علي الرغم من أهمية القيم والمبادئ. الأهم كيف تستمر في الحياة كمواطن لبناني، وهذا مسار ليس جديدً وإنما ترسخ أكثر فأكثر في المعادلة الداخلية اللبنانية، وهو الذي يفضح ويكشف النقاب كل السلوكيات التي تقوم بها المنظومة الحاكمة سواء علي مستوي الفساد أو علي مستوي الإطاحة بمؤسسات الدولة او علي مستوي المحاصصة او علي مستوي الزبائنية، كل هذه العناصر التي ساهمت في تدمير الدولة. هذه النخبة تحاول مواجهة كل هذه السياسات والقضاء عليها وفضحها وكشفها. الشعب اللبناني مدرك ان هذه السلطة الحاكمة هي سبب أزمته ولم تستطع أو لا تريد إنقاذه لأن مصالح النخبة الحاكمة صار مرتبط بالفساد. هي مصدر عيشها ومصدر قوتها هو الفساد وبالتالي تخليها عن الفساد يعني أنها تنتحر.
*النخبة اللبنانية التي يمكن وصفها بالشجاعة، والتي تخوض معارك شرسة من أجل لبنان الوطن والدولة والهوية من أين تستمد قوتها؟!
*أنا استمد شجاعتي من قناعتي بأن ما أقوله وما أسسعي إليه وأريده هو حيوي وأساسي ووجودي لي وللناس المواطنين اللبنانيين، والأمر الثاني أن ما نواجهه هو تدمير. هو ذاهب إلي إنهائك بمعني أنك تدافع عن وجودك ولست متبرعًا لمواجهة شئ لا علاقة لك به، أو لن يؤثر عليك. هناك عنصر تدمير وتخريب وتفتيت للمجتمع وأانت تنطلق من ثوابت الوحدة الوطنية من ثوابت الدولة من ثوابت الإصلاح. حتي علي المستوي الشعبي إذا تحدثنا عن الدائرة الشيعية علي سبيل المثال التي يرتكز عليها حزب الله. نحن نري أن حزب الله وإيران في مشروعها الذي تمدد داخل لبنان ساهم بدرجة كبيرة في تشويه الهوية الشيعية وإصباغها بصفات ليست من صفاتها التاريخية ولا المعروفة.
*برأيك كيف تغيرت الطائفة الشيعية في لبنان التي كانت تعتمد فقه الإجتهاد والتنوع وقبول الإختلاف والرأي الآخر وهي طائفة لطالما عرفت بالسماحة الدينية إلي طائفة تقع تحت سطوة الأيدولوجيا الإيرانية عبر المال وقوة السلاح وهو ما جلعنا نري مشاهد لشيطنة الآخر والتشدد؟!
*ما فيه شك أن الأيدولوجيا الإيرانية وأيديولوجيا ولاية الفقيه ما هي فكرية بالمعني النظري ولكنها أداة مالية وعسكرية وأمنية. هذه الأيديولوجيا جاءت وصادرت كل المواقع الدينية والمنابر باللين والقوة والقتال. وما ساعدها علي هذه المصادرة الحروب التي كانت داخلية في لبنان أو مع إسرائيل كما ساعدها العنصر المالي، بالإضافة إلي استغلالهم لعنصر التخويف، فدائمًا القول بأننا مستهدفون من إسرائيل، بالطبع كلنا ولبنان كله مستهدف من إسرائيل وليس الشيعة وحدهم، ثم القول حينًا أننا مستهدفون من السنة، ثم أننا مستهدفون من داعش، هذا التخويف وهذه المصادرات جعلت الجماعة الشيعية محاطة بكل الأعداء وهذا نتيجة التدخل في سوريا وفي العراق وفي اليمن، وبالنهاية جعل هذا كراهية تنشأ في الداخل اللبناني تجاه حزب الله طال المجموعة الشيعية. أنت عندما تصل بالمجموعة الشيعية إلي أن تكون محاطة بكل هذا الكم من الأعداء فهذا أحد وسائل السيطرة والتحكم بداخل البيئة الشيعية.
*كيف تنظر إلي مستقبل حزب الله في لبنان الذي ظهر في التسعينيات من القرن الماضي كرمز للمقاومة حائزًا علي شعبية تتجاوز حدود لبنان لكنه انكشف تاليًا ليظهر كأداة لإيران في المنطقة تعمل في غالب الأحيان ضد المصلحة العربية والوطنية، إلي جانب تنامي الكراهية له في الداخل اللبناني؟
*لابد أن يكون هذا الحديث هادئ وعقلاني، حزب الله ساهم في البداية بالمقاومة، لكن لا يجوز أن يفهم أي عربي ان المقاومة هي حزب الله. المقاومة هي شعب وقوي كثيرة ساهمت فيها. الجزء الكبير من المقاومة بدأ من 1982 إلي 1985 وهي الفترة التي تم فيها تحرير الجزء الأكبر والتي كانت فيها العمليات ضد العدو الإسرائيلي أكبر عما بعد ذلك. المقاومة حالة لا يمكن حصرها في حزب الله. حزب الله ساهم في المقاومة، لكنه مع الإرادة الإيرانية السورية ساهموا بإلغاء وقمع كل المقاومات الأخري وحصر المقاومة في حزب الله منذ عام 1990 حيث أصبح إحتكار المقاومة بقرار إيراني سوري. هو ساهم في عملية التحرير وهو يشكر عليه لكن ما حصل بعد التحرير في عام 2000 تحولت وظيفة المقاومة إلي ورقة أمنية عسكرية في يد إيران بالدرجة الأولي وسوريا بالدرجة الثانية. لم تعد هذه المقاومة تلعب دورًا بالدرجة الأولي لصالح المشروع الوطني اللبناني، وأصبحت أداة في يد قوي خارجية تحركها حين تشاء لحسابات ومصالح لها علاقة بصراعات أخري ليس للبنان علاقة بها. وما أثبت هذا الأمر انه ما بعد العامين 2010 و2011 رأينا كل هذه المقاومة وهي حزب الله تنتقل بكل قوتها للقتال في سوريا وانتقلت إلي العراق، والمفارقة أنه في هذا الزخم أننا كنا نري إسرائيل تضرب سيارات تنتقل إلي لبنان تحمل سلاح ما في فترة من 2011 حتي يومنا، لكن وجدنا سيارات تحمل الآلاف من المقاتلين والسلاح تتوجه إلي سوريا ولم نر مرة إسرائل استهدفت هؤلاء الذين يذهبون إلي سوريا، وبالتالي هذا التورط في الحرب في سوريا أعطي صورة أن هذه القوة لها دور أقليمي له علاقة بدول أخري، بمعني أنه له علاقة بالمصالح الإيرانية بكل بساطة. واليوم حزب الله مطالب من كل اللبنانيين بالعودة إلي مصالح النظام اللبناني والأولوية اللبنانية. وإذا لم يصل إلي هذا الأمر فهو يعلن بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر الصدام مع المصالح الوطنية اللبنانية ومصالح الشعب اللبناني. وهذه الوضعية يبدو انها غير قابلة للإستمرار لأنها تؤدي إلي مزيد من الإنهيار الإقتصادي المالي والمعيشي، ولا تقدم أي خطوة إيجابية، بما يعني حزب الله في نهاية الأمر يريد دولة أم لا؟! حزب الله ينتمي إلي لبنان أم ينتمي إلي المشروع الأيدولوجي الإيراني؟! هذه أسئلة حقيقية ولا يجب أن تبقي الأجوبة معلقة في هذا الأمر. سلاح حزب الله في خدمة من؟! في خدمة المشروع الوطني اللبناني أم في خدمة المصالح الإيرانية؟! لم تعد هذه الأسئلة هامشية . أصبحت ملحة لأن عملية الخروج من المأزق والأزمة الداخلية اللبنانية تتطلب حل هذه المعضلات. هذا السلاح وهذا الوجود يمكن صياغته ضمن ما يسمي الاستراتيجية الدفاعية، بمعني ان يكون القرار قرار الجيش والدولة اللبنانية وحزب الله داخل هذه الدولة وليس خارجها. حزب الله موجود بالنظام اللبناني لكن مثلك مثل الأطراف الأخري السياسية، هو يجب أن يتحول إلي حزب سياسي، والقوة العسكرية يمكن الاستفادة منها لكن ضمن سلطة واحدة وهي الجيش اللبناني. هل يعقل ان تكون هناك ثنائية في القرار. الجيش عنده قرار وآخر عنده قرار هذا يصنع مشكلة. منطق الأمور يجعلك تقول لحزب الله اقترح علينا شكل للحكم الطبيعي. غير الدولة هل هناك شكل طبيعي للحكم؟ يحاول دائمًا حزب الله الهروب من هذه الأسئلة، ويعقد صفقات خارجية مثل ترسيم الحدود البحرية والتي من ضمنها الإعتراف باسرائيل وتعاون ضمني اقتصادي علي مسألة استخراج الغاز. ماذا يعني هذا الاتفاق؟ حزب الله يريد أن يقول للجميع أنا مستعد أن أقدم تنازلات للخارج مقابل المحافظة علي وضعيتي غير الطبيعية في الداخل اللبناني وأن أكون متحكمًا في هذه المعادلة. ولكن حتي هذه المعادلة ولو كان لها غطاء خارجي لم تعد قابلة للإستمرار لأن نتائجها سلبية وتؤدي لمزيد من الإنهيار والتفتت.
*تبدو الحدود البرية اللبنانية أيضًا "مبعثرة" ما بين إسرائيل وسوريا.. كيف يمكن ترسيم هذه الحدود بشكل يضمن للبنان استقلالها؟
*هناك خلاف علي الدود بين لبنا وغسرائيل في 15 نقطة، لكن ليس هناك خلاف جوهري في مسألة ترسيم الحدود. وإذا كانت هناك نوايا للإتفاق فالاتفاق سهل. تبقي مسألة الحدود مع سوريا فهناك خلاف حول مزارع شبعا هلي هي لبنانية ام سورية. البلدين يقولان أنها لبنانية لكن المطالبة بتوقيع ترسيم الحدود بين البلدين وإرسال هذه النسخة للأمم المتحدة تفيد بشكل رسمي أن هذه المزارع لبنانية. سوريا لا تريد ان تقوم بهذه الخطوة ولها أسبابها، وحزب الله لا يريد، وإسرائيل غير مهتمة. كل الأطراف غير مهتمة بإنهاء الأمر. إسرائيل مسيطرة علي هذه المنطقة، وسوريا تريد الإبقاء علي هذه الثغرة اشكالية مفتوحة، وحزب الله يريد أن يقول إن مزارع شبعا منطقة محتلة ولا يريد أن يقوم بعملية عسكرية في نفس الوقت من اجل تحرير المزارع. هذه أحد أسباب القول باستمرار السلاح. وتحولت وظيفة السلاح إلي وظيفة داخلية وليس لمواجهة الإحتلال الإسرائيلي. وبالنسبة لأمريكا حزب الله حاول أن يمرر هذه الورقة في سبيل عقد صفقة أعطيكم مقابل سلطة في الداخل. وفي الآونة الأخيرة أظهر الأمريكيون عدم الإهتمام وأنه ليس هناك من حاجة لحل هذا الموضوع لأن المنطقة مستقرة وخالية من المشاكل الملحة التي تدفع باتجاه ترسيم الحدود البرية. هذا كان الموقف الأميركي والذي مفاده رسالة لحزب الله بأننا لا نريد أن نعقد أي صفقات.
*كيف نفهم لبنان هذا البلد الذي يعاني من اختناقات دستورية وأزمات نيابية بسبب السياسة الطائفية وبقاء المناصب الكبري شاغرة خصوصًا الرئاسة؟
*برأي أن الأزمة عميقة وخارجية. ليست أزمة داخلية. ليست المسألة مسألة خلل دستوري. في كل الدول بتكون نقاط تحتاج إلي تعديل دستوري. ولبنان مثل بقية الدول. اتفاق الطائف الذي أقر عام 1990 أهميته أنه له أفق إصلاحي، وأنه يضع خطوات تدريجية للوصول إلي مرحلة الدول "اللاطائفية"، ومن المفرض تبعًا له أن تشكل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية في عام 1992 ولم تشكل. وأيضًا تشكيل مجلس شيوخ لطمئنة شيوخ الطوائف وإنتخاب مجلس نواب خارج الضغط الطائفي، والذهاب حتي إلي اللامركزية الإدارية، بمعني إعطاء مناطق بعض الصلاحيات لتساهم في التنمية. كل هذه البنود باتفاقية الطائف لم يجر تنفيذها. إذا الحلول موجودة وقديمة لكن هناك العنصر الخارجي الذي لعب دورًا في اتجاه مزيد من إضعاف دور الدولة ومزيد من خلق مجموعات لبنانية ارتباطها بالخارج ومحاولة تصدير ان سبب المشكلة هو اللبنانيون أنفسه. اللبنانيون مثلهم مثل أي شعب آخر إذا أتيح لهم دولة تضبط الأمور وتنفذ القانون بالحد الأدني المطلوب وليس المثالي وان يكون هناك قضاء قادر أن يحكم بين المواطنين وان يكون هناك حد ادني للسياسات التنموية لن تكون لديهم مشاكل.
*الإعلام اللبناني وصل للذروة والهيمن في أوقات لكنه بالسنين الأخيرة تردي وانهار وإنحدر وصار تحت هيمنة الأكاذيب والتضليل؟
*هي حلقة متصلة. الإنهيار السياسي يتبعه إنهيار اقتصادي وإعلامي. وليس هناك شك في أننا لدينا مشكلة علي مستوي الإعلام وله أسباب عديدة لكن السبب الرئيسي هو التصدع الذي حدث علي مستوي الدولة والإختلال في المشهد السياسي والأزمة الإقتصادية. وبالتالي الإعلام تعرض للتصدع مع فقدان مساحة كبيرة من الحرية، وخاصة أننا أمام نمط استبداي ونظام أمني مستجد بدأ يتحكم ويسيطر علي الإعلام. وهذا شئ خطير لأنه يعني إنهاء هامش الحريات، فلبنان ميزته وقوته وفاعليته في أنه عنده هامش حريات. نشات مقاومة في لبنان ليس لأنه فيه حزب الله وإيران ولكن لأن هامش الحرية ساهم في نشوء مقاومة تجاه الإحتلال الإسرائيلي. موضوع الحرية وجودي بالنسبة للبنان. هناك دول من الممكن ان تستمر تحت استبداد وظلم، لكن لبنان لا يمكن أن يتحمل ويستمر في ظل نظام مستبد أو أمني. قوة لبنان في التعدد، فالطائفة الشيعية في لبنان مثلًا كانت قوتها في تسامحها وتعددها من الداخل فيها الليبرالي والإشتراكي والإسلامي والملحد، فيها قبول الإختلاف. إذا كان الإجتهاد مقبولًا في الدين فما بالك في الشئون العامة والسياسية والتي هي مجال إختلاف. أزمة الإعلام اللبناني هي أزمة السياسة وانحسار الحرية لصالح الاصطفاف. ممكن تلاق آراء متعددة في لبنان لكن لا يعني هذا ان فيه حريةفيه اصطفاف وجبهات وكل جبهة عندها إعلامها. لبنان في عز الحرب في 1975 و1990 كنت تجد إعلام عنده حيز خاص وليس ضمن منظومة الاصطفاف يعمل لمصلحة الوطن ولمصلحته ولديه سلطة خاصة.